كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وضعف بأنه لا يلزم من وجود التبديل بالآية نفي التبديل بغيرها كالسنة المتواترة إذ لا دلالة في الآية على الحصر، وقد مر مباحث النسخ مفصلة مستوفاة في سورة البقرة. {قل نزله} أي القرآن {روح القدس} هو جبرائيل والإضافة للمبالغة مثل حاتم الجود، والمراد الروح المقدس المطهر عن دنس المأثم {من ربك} صلة نزله أي ابتداء تنزيله من عنده، وقوله: {بالحق} حال أي متلبسًا بالحكمة والصواب. {ليثبت الذين آمنوا} كقوله: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا} [الأنفال: 2]. فيقول كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا وكل منهما في وقته خير وصلاح لأن الذي نزله حكيم لا يفعل إلا ما هو خير في أوانه وصواب بالنسبة إلى المكلف حين ما يكلف به. {وهدى وبشرى} معطوفان على محل {ليثبت} أي تثبيتًا لهم وإرشادًا وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم. ثم حكى شبهة أخرى عنهم. كانوا يقولون: إن محمدًا يستفيد القصص والأخبار من إنسان آخر ويتعلمها منه، واختلف في ذلك البشر فقيل كان غلامًا لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش ويعيش وكان صاحب كتب، وقيل: هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي، وقيل: عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر وقف عليهما يسمع ما يقرآن فقالوا يعلمانه، وقيل: هو سلمان الفارسي. ثم أجاب عن شبهتهم فقال مستأنفًا {لسان الذي} واللسان اللغة والمعنى لسان الرجل الذي {يلحدون} يميلون قولهم عن الاستقامة {إليه} لسان {أعجمي} غير بيّن {وهذا} القرآن {لسان عربي مبين} ذو بيان وفصاحة وقد مر في آخر الأعراف أن تركيب الإلحاد يدل على الإمالة ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها. قال أبو الفتح الموصلي: تركيب ع ج م يدل على الإبهام والخفاء ضد البيان والإفصاح، ومنه عجم الزبيب لاستتاره وخفاته، والعجماء البهيمة، وصلاة الظهر والعصر عجماوان لأن القراءة فيهما سرية، وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لسانهم ولا يتكلم بلغتهم أعجميًا وقالوا: زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان عربيًا، وحاصل الجواب هبوا أن محمدًا يتعلم المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح في المقصود لأن القرآن بفصاحته اللفظية أيضًا معجز، ولما ذكر جوابهم وبخهم وهددهم بقوله: {إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله} يعني أن سبب عدم إيمانهم هو أن الله لا يهديهم كقوله: {ختم الله على قلوبهم} [البقرة: 7]، وفسره الإمام فخر الدين بأن الله لا يهديهم إلى طريق الجنة بل يسوقهم إلى النار، وهذا التفسير يناسب أصول المعتزلة فلا أدري كيف مال إليه.
ثم لما بين أنهم ليسوا مظاهر اللطف وكان قد بنى الأمر في جوابهم على تسليم ما ادعى الخصم من أنه يتعلم من ذلك البشر، أراد أن يبين أن الذي قالوا غير صحيح ولا صادق في نفس الأمر فقال: {إنما يفتري الكذب} وفيه أيضًا رد لقولهم {إنما أنت مفتر} الافتراء {وأولئك} إشارة إلى قريش أو إلى الذين لا يؤمنون أي هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون أي هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب، أو هم الذين من شأنهم الكذب وذلك هجيراهم لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين، أو أولئك هم الكاذبون في قولهم: {إنما أنت مفتر} [النحل: 101]، ومما يدل على كذبهم عقلًا أنهم أعداء له وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم، وأيضًا إن أمر التعليم والتعلم لا يتم في مجلس واحد ولكنه يحتاج إلى أزمنة متمادية، ولو كان كذلك لاشتهر وانتشر، وأيضًا إن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة، والمعلم يجب أن يكون أعلى حالًا من المتعلم. فلو كان مثل هذا العالم الذي يتعلم منه مثل النبي صلى الله عليه وسلم موجودًا في ذلك العصر لم يخف حاله ومال الناس إليه دون النبي. قال بعض علماء المعاني: عطف الجملة الاسمية التي هي قوله: {وأولئك هم الكاذبون} على ما قبلها وهي فعلية، دالة على أن من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر تنبيهًا على أن صفة الكفر فيهم ثابتة راسخة كما تقول: كذبت وأنت كاذب. زيادة في الوصف بالكذب على سبيل الاستمرار والاعتياد، ولا افتراء أعظم من إنكار الإلهية والنبوة. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، وقرأ هذه الآية. ثم إنه سبحانه من كمال عنايته أراد أن يفرق بين الكفر اللساني وحده وبين اللساني المنضم إليه القلبي فقال: {من كفر بالله} اختلف العلماء في إعرابه؛ فالأكثرون على أنه بدل إما من {الذين لا يؤمنون بآيات الله} وما بينهما اعتراض والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء، ثم قال: {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} أي طاب منه نفسًا واعتقده {فعليهم غضب} وإما من المبتدأ الذي هو {أولئك} أو من الخبر الذي هو {الكاذبون}، وقيل: منصوب على الذم أي أخص وأعني من كفر، وجوّز بعضهم أن تكون {من} شرطية والجواب محذوف لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل: من كفر فعليه غضب إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب، وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعًا فلهذه المشاكلة صح الاستثناء.
قال ابن عباس: نزلت في عمار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسرًا وأمه سمية وصهيبًا وبلالًا وخبابًا وسالمًا فعذوبهم. فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربة وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهًا فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عمارًا كفر فقال: كلا إن عمارًا ملىء إيمانًا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال صلى الله عليه وسلم: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» فمن هنا حكم العلماء بأن الإكراه يجوّز التلفظ بكلمة الكفر، وحدّ الإكراه أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به كالتخويف بالقتل والضرب الشديد وسائر الإيلامات القوية، وأجمعوا على أن قلبه عند ذلك يجب أن يكون متبرئًا عن الرضا بالكفر وأن يقتصر على التعريض ما أمكن مثل أن يقول: إن محمدًا كذاب يعني عند الكفار. أو يعني به محمدًا آخر، أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار، وإذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملومًا وعفو الله متوقع، ولو ضيق المكره عليه حتى صرح بالكفر من غير تورية وطلب منه أن يقول لا أريد بقلبي سوى ما أذكره بلساني فههنا يتعين إما الكذب وإما توريط النفس للعذاب. فمن الناس من قال: يباح له الكذب حينئذ، ومنهم من قال: ليس له ذلك، واختاره القاضي لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذبًا فوجب أن يقبح على كل حال، ولو خرج الكذب عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله الكذب لمصلحة ما فلا يبقى وثوق بوعده وبوعيده، وللإكره مراتب منها: أن يجب الفعل المكره عليه كما لو أكرهه على شرب الخمر وأكل الميتة لما فيه من صون النفس مع عدم إضرار بالغير ولا إهانة لحق الله.
ومنها أن يصير الفعل مباحًا لا واجبًا كما لو أكره على التلفظ بكلمة الكفر لما روي أن بلالًا صبر على العذاب وكان يقول: أحد أحد حتى ملوه وتركوه ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئسما فعلت بل عظمه، ولأن في ترك التقية والصبر على القتل أو التعذيب إعزازًا للإسلام، ومنها أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم كما إذا أكره على قتل إنسان أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية، وحينئذ لو قتل فللعلماء قولان: أحدهما لا يلزم القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه لأنه قتل دفعًا عن نفسه فأشبه قتل الصائل، ولأنه كالآلة للمكره ولذلك وجب القصاص على المكره وثانيهما- وبه قال أحمد والشافعي في أصح قوليه- أن عليه القصاص لأنه قتله عدوانًا لاستبقاء نفسه فصار كما لو قتل المضطر إنسانًا فأكله.
ومن الأفعال ما لا يمكن الإكراه عليه وهو الزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة، فلو دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا بالإكراه، والأصح أن الإكراه فيه متصوّر، وأن الحد يسقط حينئذ، وعن أبي حنيفة أنه إن أكرهه السلطان لم يجب الحد، وإن أكرهه بعض الرعية وجب.
قال بعض الأصوليين: في قوله: {وقلبه مطمئن بالإيمان} دلالة على أن محل الإيمان هو القلب فهو إما الاعتقاد إن كان الإيمان معرفة، وإما كلام النفس إن كان تصديقًا، وانتصاب {صدرًا} على التمييز وأصله، ولكن من شرح بالكفر صدره. فعدل إلى النصب للمبالغة ولبناء الكلام على الإبهام ثم التفسير. قوله: {ذلك بأنهم} أي ذلك الارتداد بسبب أنهم رجحوا {الدنيا على الآخرة} ولأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان ولم يعصمهم عن الكفر، وقال جار الله: ذلك الوعيد والغضب والعذاب بسبب استحقاقهم خذلان الله بكفرهم، وهذا البحث وكذا بحث الطبع والختم والخلاف في تفسيره بين الأشاعرة والمعتزلة قد مر في أول سورة البقرة وفي غيرها فلا حاجة إلى الإعادة. {وأولئك هم الغافلون} أي الكاملون في الغفلة إذ غفلوا عن تدبر العواقب {لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} وقال في أوائل سورة هود {هم الأخسرون} [الآية: 22]. لأن أولئك صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم فضلوا وأضلوا لذلك ضوعف لهم العذاب فهم الأخسرون، وهؤلاء صدوا بأنفسهم فهم الخاسرون، ويمكن أن يقال: إن ما قبل الفواصل في تلك السورة لم يعتمد على ألف قبلها مثل {يبصرون} {يفترون}، وفي هذه السورة اعتمدت على الألف مثل {الكافرين} {الكاذبون} فجاء في كل سورة على ما يناسبها، ولما ذكر حال من أكره أتبعه حال من هاجر من بعد ما فتن. قال جار الله: معنى {ثم إن ربك} تباعد حال هؤلاء من حال عمار وأصحابه، ومعنى {إن ربك لهم} أنه لهم لا عليهم فينصرهم ولا يخذلهم، ويحتمل أن يكون الجار متعلقًا بالخبر على نية التأخير، وتكرير {إن} لطول الكلام.
من قرأ: {من بعد ما فتنوا} بفتح الفاء مبنيًا للفال فوجهه أن فتن وافتتن بمعنى واحد والمراد أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت بعد، أو أراد أن أكابر المشركين الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم، ومعنى {ثم} على هذا التفسير ظاهر.
ومن قرأ بضم الفاء مبنيًا للمفعول فالمراد أن المستضعفين المعذبين الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان إن هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر، وقال الحسن: هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ثم أسلموا وهاجروا فنزلت الآية فيهم. فمعنى {ثم} تبعيد حالة الغفران والرحمة عن حالة الارتداد والشك في أمر الرسول إلا أنه سبحانه بكرمه يغفر لهم إذا تابوا، وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي سرح ارتد، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا الآية مدنية، ومثله ما روي عن قتادة أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة، فلما جاءهم ذلك خرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت: {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 1-2]. فكتبوا بها إليهم فتبايعوا بينهم على أن يخرجوا فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله، فأدركهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزلت هذه الآية، والضمير في قوله: {من بعدها} يرجع إلى الأفعال المذكورة من الهجرة والجهاد والصبر. فالحاصل أن الآية إما نازلة فيمن عذب فلم يرتد ومع ذلك هاجر وجاهد، وإما نازلة فيمن أظهر الكفر تقية فبين تعالى أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكن كذلك، وإما نازلة فيمن ارتد ثم تاب وقام بما يجب القيام به فوعده الله المغفرة والرحمة. قال الزجاج {يوم تأتي} منصوب بقوله: {رحيم} أو بإضمار اذكر أو ذكرهم وأنذرهم ومعنى الآية ظاهر إلا أن في قوله: {عن نفسها} إشكالًا من حيث إضافته النفس إلى ضمير النفس.
وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الحي، وبالنفس الثانية الذات فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم {هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38]. {ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]، ونحو ذلك. عن بعضهم: تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول: يا رب نفسي حتى إن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
ثم أوعد الكفار بآفات الدنيا أيضًا فقال: {وضرب الله مثلًا قرية} يحتمل أن تكون مقدرة وأن تكون معينة موجودة إما مكة أو غيرها، وذهب كثير من المفسرين إلى أنها مكة والأقرب أنها غيرها لأن مثل مكة يكون غير مكة فضربها الله مثلًا لمكة إنذارًا من مثل عاقبتها.
قال العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية. فوصف الله تعالى تلك القرية بالأمن ثم بالاطمئنان إشارة إلى أن هواء ذلك البلد لاعتداله ملائم لأمزجة أهله حتى اطمأنوا واستقروا ولم يحوجوا إلى الانتقال طلبًا للصحة. ثم قال: {يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان} دلالة على حصول الكفاف لهم بأيسر وجه. قال الكشاف: الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. قلت: لعله حمله على ذلك طلب الضبط وإلا فلا حاجة إلى هذا التكلف، وكذا أطلق الأكثرون أن جمع فعلة يجيء على أفعل. قيل: إنما ذكر جمع القلة تنبيهًا بالأدنى على الأعلى، يعني أن كفران النعمة القليلة يوجب العذاب فكيف بكفران النعم الكثيرة العظيمة، وهذا مثل لأهل مكة كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة- وهو محمد صلى الله عليه وسلم- فكفروا بها وبالغوا في إيذائه فسلط الله عليهم البلاء. عذبهم بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والفرو، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم. نقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس هب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما كان نبيًا أما كان عربيًا؟ كأنه طعن في الآية أن المناسب هو أن لو قيل: فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع فردّ عليه ابن الأعرابي، والذي أجاب به علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائمًا للمستعار له وهو الجوع والخوف، لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره. فكانت الاستعارة مجردة، ولو قال: فكساها كانت مرشحة، وقد سلف منا تقرير هذا الاصطلاح في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب، وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسنًا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحًا من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحًا، وقيل: إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرّف والاختبار فتقول: أناظر فلانًا فأذوق ما عنده.
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ** وسيق إلينا عذبها وعذابها

فمعنى ذقت لباس الجوع والخوف على فلان تعرفت ما ظهر عليه من الضمور وشحوبة اللون وتغير الحال وكسوف البال. ففحوى الآية عرفها الله أثر لباس الجوع، وقيل: حمل اللباس على المماسة والتقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
قال ابن عباس: يريد بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من التكذيب والهم بقتله والإخراج من مكة. قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله: {يصنعون} تنبيهًا على أن المراد في الحقيقة أهلها.
ولما ذكر المثل ذكر الممثل فقال: {ولقد جاءهم} يعني أهل مكة {رسول منهم} من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه {فكذبوه فأخذهم العذاب وهم} متلبسون بالظلم. قال ابن عباس: يعني بالعذاب الجوع الذي كان بمكة، وقيل: القتل يوم بدر، وقيل: إن قول ابن عباس أولى، والمراد أن ذلك الجوع بسبب كفركم فاتركوا الكفر. {فكلوا مما رزقكم الله} من الغنائم. فأكل الغنائم مسبب عن ترك الكفر فلذلك وصله بالفاء، وقال الكلبي: إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في الحمل فحمل الطعام إليهم فذلك قوله: {فكلوا}، ورجح قول ابن عباس بأنه تعالى قال بعد ذلك: {إنما حرم عليكم الميتة} فالمراد أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب- وهو الغنيمة- واتركوا الخبائث- وهو الميتة والدم- أو أنه سبحانه أعاد تحريم هذه الأشياء في البقرة وفي المائدة والأنعام وفي هذه السورة قطعًا للأعذار وإزالة للشبهة، ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب} قال الكسائي والزجاج {ما} مصدرية وانتصاب {الكذب} ب {لا تقولوا} أي ولا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، وقوله: {هذا حلال وهذا حرام} بدل من الكذب ولك أن تنصب {الكذب} ب {تصف} وتجعل {ما} مصدرية أيضًا أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، ومعناه لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ودليل، ويجوز أن تكون {ما} موصولة أي ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام، فحذف لفظ فيه لكونه معلومًا، وقوله: {تصف ألسنتكم الكذب} من فصيح الكلام وبلغيه كأن ماهية الكذب مجهولة وكلامهم يكشف عن حقيقته نظيره قوله: وجهه يصف الجمال وعينه تصف السحر، واللام في قوله: {لتفتروا} لام العاقبة لا الغرض، والمقصود من ذكره بيان أنه كذب على الله فإن قوله: {لما تصف ألسنتكم الكذب} لم يكن فيه هذا البيان.